مسلسل «الهرشة السابعة»: لماذا غرقت تايتانيك؟
في 15 أبريل 1912، روعت العالم أخبار غرق «تايتانيك» التي بُنيت باعتبارها إعجازاً هندسياً تسيد به البشر المحيط لبُرهة من الزمن قبل أن تعود السيادة لعنفوان الطبيعة. التي ابتلعت التحفة الحديدية بلا رحمة.
ألهمت المأساة «جيمس كاميرون» لتقديم فيلم تايتانيك 1997، الذي استضافت فيه المأساة قصة حُب شكسبيرية بين صعلوك فقير وأميرة أرستقراطية.
لا يهدف المقال لاستعادة الحدث التاريخي أو السينمائي، بقدر ما يُريد استعادة قصة التايتانيك في بهائها التراجيدي وحُزنها التاريخي لتروي قصة منظومة أخرى صممها البشر منذ قديم الأزل ووصفوها كما وصفوا التايتانيك، باعتبارها مُعجزة لا يُمكن أن تُغرق أصحابها لأنها قارب نجاة في ذاتها، يصعب أن يتذكر أحد من أين أبحرت التايتانيك أو أين غرقت؟ لكن يتذكر الجميع الرحلة بأكملها لأن الرحلة هي السفينة.
ولدت منظومة الزواج في كل الثقافات باعتبارها إعجازاً، نُحتت أجسادنا وعقولنا وقلوبنا لوصاله، يصعب أن يُدرك أي ثنائي من أين بدأت فكرة الزواج عامةً ولا لأي طريق ستقودهم زيجتهم خاصة؟ الزواج مثل تايتانيك التي لم تكن مواصلة من مدينة لأخرى إنما كانت الرحلة ذاتها، نخشى كثيرًا السؤال عن قوارب النجاة من غرق الزواج قبل بدايته أو هل تناسب زيجتنا الوجهة التي اخترناها لرحلتنا أم لا؟ ربما لأن المنظومة مُصممة لتكون قارب نجاة أفرادها.
تمتلك الثقافات مُصطلحاتٍ تصف العثرات في منظومة الزواج، مثل النزوة، أزمة مُنتصف العمر، والمصطلح الغربي Seven Year Itch، الذي يصف تغيرات نفسية يمر بها الزوجان بعد سبع سنوات اختبروا فيها الوصال ثم الأبوة والأمومة وأخيرًا الملل الزوجي، تختلف المصطلحات في دلالاتها وتتفق في خفتها، فهي لا تتعدى كونها أزمة أو نزوة أو حكة في مُنتصف الظهر لا تصلها يداك، قد تزعجك قليلاً لكن يُمكن تحملها، توحي خفة الألفاظ المختارة بقدر صلابة ورسوخ منظومة الزواج ذاتها التي لا يتعدى ما تواجهه أن يكون تحدياً عابراً حتماً سيمر.
غرقت تايتانيك لاصطدامها بجبل جليدي متوسط الحجم كان يذوب ببطء، ماء مُتجمد مُحتضر قهر المارد الحديدي، يدور «الهرشة السابعة» حول الفكرة ذاتها، منظومة الزواج في مواجهة حكة عابرة، هل يُمكن أن يتحطم زواج ثنائي (آدم ونادين) يعرفان بعضهما منذ الطفولة، وثنائي آخر (شريف وسلمى) يعيشان حكايتهما بذكاء خارج أدوار الزواج وقيوده التقليدية، قصتان تسيران بالتوازي، إحداهما في قلب منظومة الزواج التقليدي والأخرى على هامش تعريفاته وأدواره، تواجههما حكة بسيطة، مسار زمني طوله سبع سنوات يصطنع مفاجآته. هل يمكن أن تغرق الحكاية مثل تيتانيك؟
حكاية ثوبها الدانتيل
تقدم الحكاية «نادين» التي ولدت من رحم زواج دام ثلاثين عاماً، وهي تتأفف من ترك زوجها المحارم المتسخة في دورة المياه، بينما زوجها الذي ولد من رحم زيجة مات فيها الأب مبكراً لتربيه أم مشرقة تحب الحياة، يُخبرها برقة ساخرة أنه يتحسس من الدانتيل الذي ترتديه.
تظهر الطباع الصغيرة كرسول صادق عن جوهر الشخصيتين، تمتلك نادين نزعة للتحكم في محيطها والأشخاص حولها، تعيد الأشياء لمكانها وتستعيد نظام منزلها، وتُقيد الأشخاص بأحكام قاسية تستعيد عبرها رؤيتها للعالم كأبيض وأسود، لا ينبع التحكم من نزعة تسلطية بقدر تربيتها في منظومة زواج تقليدية يقوم فيها الأب بدوره خارج المنزل وتقوم الأم بدورها في المنزل، ندرك من شخصية أبويها أنها لم تحي طفولة هادئة بل طفولة مليئة بالعراك لكن لا يخرج أحد طرفي الحلبة خارجها أبداً، فزواج أبويها راسخ مثل تايتانيك في بداية إبحارها، لذلك تستنسخ نادين التجربة ذاتها، تتحكم في قصتها وتحرس حلبة زواجها حتى لو حولتها لسجن.
تنتقل بخفة من ثوب الزوجة للأمومة، بينما يتبعها زوجها بخُطى مُترددة للأبوة، يستمد «آدم» اختيارات حياته من تجربة تربيته بلا أب يمنحه نموذج يسير على خطاه في زواجه، يصطنع لنفسه أدواراً شتى خارج منظومة الزواج، يتتبع أحلامه العملية، يُلح على زوجته حتى تصطنع لنفسها تعريفاً خارج المنزل بالعمل، تبدو زوجته مثل حارس لحلبة الزواج التي تريد أن تبتلع بجاذبيتها عالم زوجها كاملاً، بينما يحاول زوجها الفرار بإصرار لا يخلو من أنانية بحثاً عن مساحات تحقق خارج زواجه.
تؤمن «نادين» أن أي تغيير قد يُخرج الأمور عن السيطرة، ويؤمن «آدم» أن الزواج مثل الدانتيل، ثوب للحكاية يمكن لو تحسسنا منه أن ترتدي حكايتنا أثواباً أخرى. تؤمن «نادين» أن زواجها قارب نجاة في ذاته بينما يجتهد زوجها لصنع قوارب نجاة خارجه.
لماذا غرقت تايتانيك؟
لا تواجه حكاية نادين وآدم اصطداماً ملحمياً، إنما غرق تدريجي، يأتي الإنجاب ليتسيد بحضوره فيخبر «آدم» زوجته أنها نست كونها امرأة بأمومتها، بينما يجتهد في صنع قارب نجاة كل مرة لفرد واحد، يغرق في عمله تاركاً زوجته خلفه، دون دعوتها مرة لمغامرة خارج منظومتها التي لا تعرف سواها.
تختبر «نادين» الغرق عندما تُخبرها أمها برغبتها في الطلاق بعد 30 عاماً، يتحطم النموذج الأصلي الذي تستعير منه شهادة ضمان حكايتها، تدرك «نادين» أن الحلبة يُمكن الخروج منها وأن الزواج ليس قارب نجاة في ذاته، إنما تايتانيك العظيمة يُمكن أن تختبر الغرق.
يُقدم المسلسل مُقارنة خفية بين زواج أجيال الآباء والأبناء، تشكلت شخصية نادين من أبويها اللذين احتاجا 30 عاماً ليصلا للجبل الجليدي، بينما تختبر نادين الجبل ذاته في 7 أعوام وحسب. لا تُسائل الحكاية منظومة الزواج وحسب بقدر ما تُسائل قدر صمودها في العصر الحديث.
قديمًا كانت أدوار الزواج مُحددة ببساطة، مثل سفينة خفيفة الوزن، لكنها رغم خفتها تُبحر في بحر هادئ، يتسامح الماضي مع نزوات الأزواج وهيستيريا الزوجات لكنه لا يفهم كثيراً دواعي الخروج من الحلبة، لا توجد مساحات تحقق للمرأة خارج زواجها، وتبعات الطلاق مجتمعياً باهظة لتتحملها وحدها.
تحاول «نادين» لأول مرة بعد طلاق أمها تجربة الحياة خارج المنظومة، تختبر التحقق في مجال عمل تُحبه، وتجد لأول مرة شيئاً تدافع عنه خارج رغبتها في إخضاع كل شيء لمنظومة الزواج التقليدي، يُكلفها عملها الكثير من هالتها المثالية كزوجة وأم مطيعة، أفعال كانت شخصيتها القديمة ستطلق عليها أحكامها القاسية بعنف.
تُدرك «نادين» أن سفينتها أكثر ثقلًا، لا تكفيها قوارب النجاة المُعتادة، تتحول الهرشة أو حكة بسيطة لهاجس يُطارد زوجين صاراً كلياً خارج المنظومة. تدرك نادين بغرقها في مساحة من الرمادي واللايقين أن الحياة ليست أبيض وأسود، تدرك أن شخصيتها القديمة كانت مُستعارة من أمها ومستقبلها رهين اختيارها أن تتحرر من الشخصية الآن أو بعد 30 عاماً عندما تصير عجوزاً تعيسة في سن والدتها.
يدرك «آدم» أنه خلال كل تحققاته خارج منظومة الزواج وكل اختياراته التي شابها مزيج من الشغف والأنانية، كانت زوجته هي ثقل منظومة الزواج كاملة، وعندما تركت دورها للرحلة ذاتها التي اعتبرها حقه وحده، ترنحت المنظومة بلا ثقل من الجانبين.
يحدث الطلاق ولا يدرك أحد أبداً كيف وصلت الأمور لذلك؟ جمالية دراما «الهرشة السابعة» أنها أحدثت غرقاً تدريجياً، وليس اصطداماً مدوياً، غرقت تايتانيك عندما احتك الجبل الجليدي بخمسة مقصورات بشكل جانبي، مقصورة تلو الأخرى ببطء مُميت، أدرك القبطان بنهايته أنه لا سبيل للطفو مجدداً.
في مشهد المُصارحة الأخيرة يدرك الزوجان أن الأمر لا يتعلق بعمل الزوجة أو عبء المنزل والأطفال أو نزوة الزوج مع امرأة لم يكن قد حقق وصاله معها بعد، تكشف المُصارحة عن شرخ امتد منذ البداية.
في بداية الحكاية تُخبر نادين زوجها الذي يلح عليها لتجد عملاً أنها سوف تفعل لكن تلك ليست المُشكلة، تنهار بعد فقد جنينها الأول لكن منبع انهيارها إدراكها أن الإنجاب هو الحل الوحيد لإنقاذ زواجها، ترسل «نادين» إشارات استغاثة منذ بداية زواجها لا يستقبلها أحد.
يستمد «آدم» شجاعته من رغبته في اختبار الحياة في مكان آخر مع امرأة أكثر خفة وأقل تحكماً وتستمد «نادين» شجاعتها من يقينها أن امرأة تعيسة لن تُربي أطفالًا سُعداء، تدرك أن شخصيتها ورغبتها في التحكم منبعها أمها وأن مستقبل أولادها رهين ألا تورثهم الشخصية ذاتها.
شريف وسلمى، الحياة على هامش المنظومة
تحمل قصة شريف وسلمى، تحرراً أكبر من منظومة الزواج، يمتلك كلاهما قوارب نجاة أكبر، ووجداناً مُرهفاً لتلقي الاستغاثات والنقاش حول كل تفصيلة بحرية كاملة قبل خوضها.
ولدت «سلمى» من رحم طفولة أهملتها فيها أمها حتى اصطنعت لنفسها أماً بديلة، بينما ولدت حكاية «شريف» من رحم زوجين مُتفاهمين اختبرا منظومة زواج استنفدت أغراضها ففروا منها بقوارب نجاة ليصيرا صديقين بعد طلاقهما.
تعمل «سلمى» في تدريب الباليه المائي، رياضة قوامها الغرق بشكل عمدي والاعتماد على الحدس والحواس في مُطابقة حركاتك لمن حولك، رياضة المهارة فيها عمادها حدس خفي وثقة في أن من حولك يسيرون على الإيقاع ذاته. بينما يعمل «شريف» في النجارة بشكل هاوٍ مُتحرر من الروتين، يُشكل حياته باختياره وإرادته مثلما يُشكل قطعة الخشب المُصمتة لتصير تُحفة.
تمنح منظومة الزواج على قيودها أدوارًا مُحددة وصارمة لأصحابها، بينما تحضر السيولة في علاقة شريف بسلمى، فيريد أن يُساكن حبيبته في البداية ليتأكد من نجاح علاقتهما، يريد اختبار صلابة الوصال قبل تشكيله في صورة زواج أبدي مثلما يختبر الخشب قبل إخضاعه لقوانين أصابعه، بينما تثق سلمى في حدسها، في أن تناغم إيقاعهما كافٍ ليُسلما إرادتهما طواعية للزواج مثلما تُدرب فتياتها.
تسير منظومة زواج شريف وسلمى بعناية مثل كل السفن التي اصطنعت عبرتها من غرق تايتانيك، يمتلكان تحقق وقوارب نجاة كافية للخروج متى أرادا، يمتلكان نظام استغاثة ووصال مُرهف لأدق تغيير، لكن يمنحهما المحيط اختبارات جديدة!
تأتي الحكة في صورة قرار الإنجاب، تُريد سلمى أن تكون أمًا ولا يريد زوجها، لا يدور الخلاف حول تصور مُستقبلي للإنجاب بل حول أشباح من الماضي تطل برأسها ببطء، تُحارب سلمى في قرارها شبح الأمومة التي حُرمت منها وعوضتها بشكل مُستعار، تريد أن تصطنع تجربتها الخاصة التي تعوض فيها حرمانها، بينما يرفض شريف بلا وعي رجل نُدرك في ما بعد أنه تخلى عن طفلته ولا يعلم عنها شيئاً.
لا تدور منظومة الزواج فقط حول الإبحار لوجهة لا يعرفها أصحابها، إنما عن المرفأ الذي بدأت منه الحكاية، لا تدور المنظومة فقط حول قوارب النجاة وأنظمة الوصال بين أفرادها إنما عن العُطب الكامن في السفينة قبل حتى أن تُبحر، تبحث سلمى في علاقتها بزوجها عن تعويض لماضيها بينما يبحث شريف في زواجه عن هروب آمن من ماضيه.
لا يدور الزواج فقط حول المستقبل إنما عن الأدوار التي حُرمنا منها أو نحتتنا على صورتها، التي نصير مجبولين على تكرارها إما بتقليدها أو الانتصار المعنوي عليها.
لا يتعلق الزواج بجبل جليدي يربض في بقعة بعينها علينا الحذر منه إنما في عطب كامن في بنية السفينة ينتظر لحظة ظهور لتغرق السفينة من داخلها وبأيدي أصحابها.
نهاية سعيدة لركاب تايتانيك
يمنح «الهرشة السابعة» نهاية سعيدة لأصحابه، ليست نهاية ساذجة بقدر ما هي قوس اكتمال لشخوص اختبروا زلزالاً في صورة حكة.
في الحلقة الأخيرة بعد اختبار «نادين» تحققها الكامل خارج زواجها، بعد إدراكها قدرتها على إعادة اختراع نفسها خارج المنظومة وخارج ثوب أمها، تتسامح مع اللون الرمادي، تترك صرامة الأبيض والأسود وتنسى لأول مرة المحارم الورقية في دورة المياه في دلالة على تسامحها مع حياة لا يمكن التحكم فيها طوال الوقت.
يحقق «آدم» أحلامه لكنه يُدرك طيف الأنانية الخفية في رغبته الدائمة في التحقق في كل ما يريده دون أن ينظر خلفه بحثاً عن ضحايا تركهم، يخبر أطفاله عن قصة ضفدع أراد مُلامسة النجوم لكنه في خضم صعوده الشجرة صار في المنتصف، لم يلمس النجوم ولم تعد الأرض قريبة، بات المشهد مُخيفاً وليس ساحراً، فوقه فضاء وأسفله هاوية، يقفز الضفدع ويعود بألم لجذوره، يستعيد آدم من خلال عاطفة الأبوة التي عاش حياته دون أن يرى نموذجاً لها، خطؤه، جوهر الأبوة هو أن يمنح المرء الأمان لمن حوله، وكل مغامراته السابقة منحته تحققه لكنها لم تمنح الأمان أبداً لأسرته، لذلك يستعيد دوره في صورة ضمير مؤرق لا يجد نوماً في أي فراش بعد طلاقه.
تقع «سلمى» من جديد في حُب زوجها عندما ترى رغبته في وصال ابنته، ترى في ابنته طيفاً من طفولتها، لكنه طيف يملك نهايته السعيدة، يدرك «شريف» أن الحياة أكثر عشوائية من قطعة الخشب التي ينكب عليها بإرادته ليستخرج منها تُحفة بنظام مُحكم، يمنحه القدر الأبوة رغماً عنه ليمنحه فرصة أن يختارها بإرادته في النهاية.
لا يريد «الهرشة السابعة» إثارة الرُهاب من منظومة الزواج ولا يستعيدها باعتبارها سحراً كل ما هو خارجه لا قيمة له (تستعيد مثلاً أم نادين حُبها لزوجها بعد طلاقها وترفض العودة للمنظومة التي تدرك أن قيودها ستفسد وصالهما الجديد)
إنما يدور حول الزواج باعتباره رحلة في نفوس أصحابه، الزواج ليس قارب نجاة في ذاته، إنما رحلة لا بد أن تحمل قوارب نجاة كافية، شبكات وصال واستغاثة مرهفة ومُصممة للحذر من الغرق البطيء، رحلة لا تبدأ قبل أن يعرف كل طرف فيها ذاته أولًا، ليدرك هل يبحث في زواجه عن سعادته ومن معه أم عن حرب مع أطياف ماضٍ لا يراها سواه؟
عبر حكاية في قلب منظومة الزواج التقليدي وحكاية على هامشها، ندرك أن الزواج رحلة يُشكلها ماضي أصحابها ومُستقبلهم، رحلة قد تتطلب أن يقع أصحابها في الحب أكثر من مرة، والكره كذلك.
منظومة لا تُغري صلابتها بتجاهل فحصها، مثلما أغرت تايتانيك أصحابها بإهمال احتمالات الغرق، غرقت تايتانيك بسبب بروز جبل جليدي كان يذوب ببطء، بينما الزواج يُمكن أن ينقذه أصحابه أو تُهلكه حكة.
المصدر
مجلة إضاءات